فن القتال
في معركة التفاوض التعاقدي
ب- الصيغة القاتلة "لحين تحرير الشروط"
subject to contract
كقاعدة عامة، إذا اقتصر الإيجاب على بيان كل المسائل الجوهرية في العقد المراد إبرامه دون التعرض لعناصره الثانوية، اعتبر صالحاً لإنشاء هذا العقد بمجرد القبول. ويُفسر خلو الإيجاب من بيان العناصر الثانوية، وقبول الطرف الآخر لهذا الإيجاب، على أن نية الطرفين قد اتجهت إلى الأخذ، في هذا الخصوص، بالقواعد المكملة التي أوردها المشرع في شأن هذا العقد .
و كثيرا ما يحدث في المفاوضات التعاقدية، لاسيما عندما تمتد فترة طويلة وتتناول مسائل معقدة، أن يتوصل الطرفان إلى "اتفاق مبدئي" أو يحررا "مذكرة تفاهم" أو "خطاب نوايا" أو أي مستند تمهيدي لحين تحرير العقد الرسمي. وقد يتوصل الطرفان إلى اتفاق بشأن كل المسائل الموضوعية الجوهرية وتبقى بعض المسائل الشكلية التي يرجئانها "لحين تحرير الشروط".
وفي نظام التقنين المدني، لا ترتب هذه الصيغة بحد ذاتها ذات الأثر الذي يترتب عليها في نظام القانون العام، وإنما يُشترط أن تكون نية العاقدين قد اتجهت فعلا إلى جعل تحرير العقد الرسمي شرطا لانعقاده. وإذا رأت المحكمة أن العقد الموقع عليه من الطرفين يشمل كل البيانات اللازمة لتوافر أركان البيع، ولو أنه مذيل بعبارة "وهذا لحين تحرير الشروط"، فإنه يعتبر عقدا صحيحا (جلسة 13/5/1943، طعن رقم 76، سنة 12ق).
وينسجم موقف مبادئ اليونيدروا، إلى حد كبير، مع نظام التقنين المدني من هذه المسألة. ووفقا لنص المادة (2-13) من مبادئ اليونيدروا، فإنه "إذا أصر أحد الأطراف خلال المفاوضات على عدم إتمام العقد حتى يتم الاتفاق .... في شكل معين، لا ينعقد العقد قبل التوصل إلى اتفاق في ذلك الشكل". فإذا أفصح الطرفان، أو أحدهما، عن رغبتهما في عدم الالتزام بالعقد لحين تحرير عقد رسمي، لا ينعقد العقد حتى يتم تحرير ذلك العقد. بيْد أنه في بعض الحالات يعتبر العقد قد أبرم بالفعل وما تحرير العقد الرسمي إلا تعزيز لما اتفق عليه الطرفان.
ومن الأمور المستقرة في الفقه القانوني الإنجليزي أن وجود عبارة subject to contract، التي تعنى "لحين تحرير الشروط" أو "لحين تحرير العقد الرسمي"، يعنى أن أيا من الطرفين لا يكون ملزما بشيء حتى يتم إبرام عقد محدد بين الطرفين. ومن ثم، يجوز لأي طرف الانسحاب من العقد ما دام لم يحرر رسميا بعد .. ولا تقتصر هذه العبارة على نوع معين من العقود، وإنما تسرى على كافة الأنواع. وإذا اقترنت هذه العبارة بالقبول، فإنه لا يكون قبولا حقيقيا، ولا يكون القابل ملزما بأي شئ. ومن ناحية أخرى، فإن هذه العبارة لا ترقى إلى كونها رفضا للعرض refusal ، أو عرضا مضادا counter offer. وقد أصبحت هذه العبارة بمثابة وصفة سحرية لتعليق الالتزامات .
والقاعدة العامة في اللغة الإنجليزية هي أن subject to ، عبارة شرطية تعني "لحين" أو "رهناً بـ"، أما عبارة subject to contract فمعناها "لحين تحرير الشروط" أو "لحين تحرير العقد الرسمي". وتستخدم عبارة subject to في العقود الشرطية conditional contracts. لذا، سنتوقف أمامها بشيء من التفصيل عند مناقشتنا للعقود الشرطية في المبحث الثاني من هذا الفصل.
2- حرب النماذج battle of forms
نظرية "الطلقة الأخيرة"
من الشائع في المعاملات التجارية أن يحيل كل من الموجب، عند عرض إيجابه، ومن وُجه إليه الإيجاب عند قبوله له إلى الشروط النموذجية الخاصة به. عند عدم وجود موافقة صريحة من الموجب على الشروط النموذجية الخاصة بمن وجه إليه الإيجاب، تثور مشكلة لتحديد ما إذا كان العقد قد انعقد أصلا، وإذا كان قد انعقد فما هي مجموعة الشروط النموذجية التي يتعين ترجيحها من بين المجموعتين المتعارضتين إن كان لهما محل في التطبيق.
وتنشأ هذه المعركة الاقتراضية عندما يقدم (أ)، مثلا، عرضا على نموذج مطبوع خاص به يحتوى على شروط معينة، ويقبل (ب) هذا العرض على نموذج مطبوع، خاص به أيضا ولكنه، يحتوى على شروط تتعارض مع بعض الشروط الواردة في النموذج المقدم من (أ). وفي هذه الحالة، قد ينشأ عقد يستدل عليه من سلوك الطرفين by conduct ، ولكن ما الشروط التي ينشأ على أساسها هذا العقد؟ إن الإجابة، غالبا، هي أن الطرف الذي يطلق آخر طلقة هو الذي يكسب. ولكن هناك استثناءات لهذا الوضع.
وفي قضيةButler v Ex-Cell-O corp. (1979) ، عرض البائع "شركة باتلر" بيع ماكينة على المشترى، وتم تقديم عرض البائع على نموذج مطبوع للبائع تضمن على ظهره الشروط النموذجية التي يطبقها في أعماله، وكان من بين هذه الشروط بند ينص على تعديل السعر حسب القيمة السوقية وقت التسليم، وآخر ينص على أن "الغلبة تكون لشروط البائع على أي بنود وشروط في طلب الشراء المقدم من المشترى". وأرسل المشترى طلبا لشراء الماكينة على النموذج الخاص به والذي نص ضمن شروطه على أن سعر الماكينة ثابت. كما تضمن صيغة إقرار من البائع ينص على ما يلي "نحن البائع نقبل طلبكم وفقا للبنود والشروط الموضحة فيه". وطلب المشتري في طلبه أن يوقع البائع على الإقرار ويعيده إليه. ووقع البائع الإقرار وأعاد الإيصال إلى المشترى مع خطاب نص على ما يلي "تم قبول هذا الطلب وفقا لعرض الأسعار المرسل منا في 23 من مايو للتسليم خلال فترة من 10 إلى 11 شهراً".
وعند تسليم الماكينة، أدعى البائع أن السعر زاد بحوالي ثلاثة آلاف جنيه إسترليني، لكن المشترى رفض دفع الزيادة في السعر، ومن ثم، رفع البائع دعوى للمطالبة بالزيادة بموجب بند تعديل السعر الوارد ضمن الشروط النموذجية المدونة على ظهر نموذج العرض المقدم منه إلى المشترى وكذلك استناداً إلى الخطاب الذي أرسله إلى المشتري والذي جاء فيه أن سينفذ الطلب وفقاً للبنود الواردة في نموذجه. بينما جادل المشترى بأن البائع وقع الإقرار الوارد في نموذج المشتري والذي تضمن أن السعر ثابت، ومن ثم، يكون العقد قد انعقد وفقاً للشروط الواردة في نموذج المشتري.
وقد اعتبر قاضيان من هيئة المحكمة المشكلة من ثلاثة قضاة أن طلب الشراء على نموذج المشترى كان بمثابة عرض مضاد counter offer قبله البائع عندما عبأ الإقرار وأعاده إلى المشترى. واستند القاضيان في قضائهما إلى قاعدة "صورة المرآة" لإنشاء العقد. وبناء عليه، قضت المحكمة بأن نموذج الشراء المرسل من المشترى لا يمكن تفسيره على أنه قبول لعرض البائع لأنه لا يطابق نفس الشروط الواردة في عرض البائع، وبالتالي يعتبر عرضاً مضاداً. وبتوقيع الإقرار، يكون البائع قد قبل هذا العرض المضاد من المشترى. وأما الخطاب، فلم يكن عرضاً مضاداً لأن تعبير "تم قبول هذا الطلب وفقا لعرض الأسعار المرسل منا" لم يكن القصد منه هو توجيه عرض مضاد وإنما الإشارة إلى عرض السعر والثمن ووصف الماكينة، ومن ثم، لا يترتب عليه تضمين العقد الشروط المكتوبة بحروف صغيرة على ظهر عرض الأسعار المقدم من البائع.
وفي القانون الإنجليزي، لا تكون الشروط المطبوعة على تذكرة الراكب ملزمة له ما لم يحط علما بها. وتتصل مسألة ما إذا كان قد تم توجيه انتباهه إلى هذه الشروط، أم لا، بالوقائع وليس بالقانون، ومن ثم، يترك أمر الفصل فيها لهيئة المحلفين .
ووفقاً لقواعد اليونيدروا (المادة 2-21)، فإنه في حالة تعارض الشروط النموذجية مع الشروط غير النموذجية، ترجح الشروط غير النموذجية. ويُقصد بالشروط النموذجية تلك التي يعدها مسبقاً أحد أطراف العقد دون مناقشة محتواها مع الطرف الآخر (المادة 2-19-2 من قواعد اليونيدروا). لذا، من المنطقي إذا ناقش الأطراف أحكاما خاصة بعينها وارتضوا صياغتها على هذا النحو في العقد، أن يتم تغليب هذه الأحكام الخاصة على أي حكم آخر ينازعها في الشروط النموذجية ما دام ذلك يعكس بصورة أكبر نية الأطراف في حالة بذاتها .
وقد ترد الأحكام المتفق عليها استقلالا في نفس المستند المتضمن الشروط النموذجية، كما قد ترد أيضا في مستند منفصل. وفي الحالة الأولى، قد يبدو من السهل التعرف عليها إذا ما حررت بحروف مختلفة عن الحروف الواردة في الشروط النموذجية. وفي الحالة الثانية، قد يبدو أكثر صعوبة التمييز بين الأحكام التي تعد شروطا نموذجية وتلك التي لا تعد كذلك، وكذا تحديد موضعها في الترتيب ضمن المستندات الأخرى. لذا، عادة ما يدرج الطرفان في العقد بندا صريحا يشار فيه إلى المستندات التي تعتبر جزءا من عقدهم ويبينون مدى حجيتها .
وعندما يستخدم كل طرف شروطا نموذجية تتفق في بعضها عن شروط الطرف الآخر وتختلف عنها في بعضها الآخر، ويصل الطرفان إلى اتفاق على جميع الشروط باستثناء الشروط المختلف عليها، يعد العقد قد انعقد على أساس الشروط المتفق عليها وأي شروط نموذجية أخرى تتفق معها في الجوهر، وذلك ما لم يخطر أحد الأطراف الطرف الآخر بوضوح مسبقا أو في وقت لاحق، دون تأخير غير مبرر، بعدم اتجاه إرادته إلى الالتزام بالعقد (المادة 2-22 من قواعد اليونيدروا) .
وفي حالة تعارض الشروط النموذجية، قد يؤدي تطبيق القواعد العامة للإيجاب والقبول، إلى إحدى حالتين، الأولى، ألا يكون ثمة عقد على الإطلاق ما دام القبول الصادر من الموجه إليه الإيجاب سيكون بمثابة عرض جديد. والثانية، أنه إذا كان الطرفان قد شرعا في التنفيذ دون أن يعترض أي منهما على تطبيق الشروط النموذجية المقترحة من الطرف الآخر، فيعتبر العقد في هذه الحالة قد انعقد على أساس آخر ما أرسل أو أحيل إليه من شروط ("نظرية الطلقة الأخيرة") .
3- نظرية الضربة القاضية knock-out
تعد نظرية "الطلقة الأخيرة" مناسبة في الأحوال التي يتفق فيها الطرفان على تبني الشروط النموذجية الخاصة بهما كأساس لانعقاد العقد. ومن ناحية أخرى إذا أشار الأطراف، كما هي الحال غالبا من الناحية العملية، إلى شروطهم النموذجية بصورة أو بأخرى، بشكل تلقائي، مثل تبادل طلبات مطبوعة وإفادة بالعلم بنماذج الأوامر متضمنة شروطها في الخلف، فلا يكون في وسعهم عادة حتى مجرد العلم بما يوجد من تنازع بين الشروط النموذجية لكل منهما. ففي مثل هذه الحالات لا يوجد مبرر للسماح لهؤلاء الأطراف بالمنازعة في وجود العقد أصلا، أو في حالة بدء التنفيذ بالمطالبة بتطبيق آخر ما أرسل أو أحيل إليه من شروط.
ولهذا السبب تنص المادة (22-2) من مبادئ اليونيدروا، بالمخالفة للقواعد العامة في الإيجاب والقبول، على أنه إذا توصل الطرفان إلى اتفاق [على جميع الشروط] عدا ما يتعلق بشروطهما النموذجية، فإن العقد يعد قد انعقد على أساس الشروط المتفق عليها فضلا عن أي شروط نموذجية مشتركة من حيث الجوهر.
ومع ذلك، يجوز دائما لأي طرف أن يستبعد إعمال نظرية "الضربة القاضية" بأن يخطر الطرف الآخر بوضوح مسبقا، أو في وقت لاحق، دون تأخير غير مبرر، بأنه لا ينوى الالتزام بعقد غير مؤسس على الشروط النموذجية الخاصة به. ولا يكفي إدراج بند بهذا المعنى في الشروط النموذجية نفسها لأن المطلوب هو إقرار محدد من الطرف المعني سواء كان الموجب أم القابل .
4. تبادل الطلقات في أثناء المعركة
في أثناء التفاوض، يسعى كل طرف إلى تحقيق أفضل مصالحه، وفي نفس الوقت يحاول تجنب تحميله بمسئوليات إلى أدنى حد ممكن. وعلى سبيل المثال، يحاول البائع الحصول على أعلى سعر في حين يحاول المشتري تقليله إلى أدنى سعر ممكن. هنا، يبدأ التراشق بين الطرفين بالبنود والشروط التي يرى كل طرف أنها تحقق مصلحته.
ويهدف كل طرف، من هذا التراشق، إلى نقل تبعات العقد منه إلى الطرف الآخر أو تخفيف المسئولية عنه فيما يتعلق بتلك التبعات. ويستمر تبادل الطلقات حتى يتفق الطرفان على صيغة للبند محل البحث. عندئذ، يكون البند المتفق عليه بمثابة الطلقة القاتلة. وفيما يلي مثال على محاولات كل طرف نقل التبعة إلى الطرف الآخر في عقد بيع.
مثال توضيحي :
يرغب البائع في تحديد تبعات خرق العقد في حالة تخلف المشتري عن تسلم البضاعة. وقد يضع البائع شرطا ينص على أنه:
"في حالة تخلف المشترى عن تسلم البضاعة في مكان الوصول بعد إخطاره بذلك، يحق للبائع فسخ العقد دون أي إخطار آخر ويجوز له ممارسة بعض أو كل الحقوق التالية:
1. طلب تعويضات من المشترى عن تلف البضاعة أو المصاريف المتعلقة بنقلها.
2. بيع البضاعة لمشترين آخرين بسعر السوق وطلب الفرق من المشترى.
3. طلب تعويض عن فوات الكسب نتيجة لامتناع المشترى عن تسلم البضاعة.
4. طلب دفع فائدة على المبالغ المستحقة تطبيقا للفقرات السابقة بسعر 7% تحسب من وقت إخطار المشترى بوصول البضاعة.
5. المسئولية التضامنية للمشترين المتعددين".
ويمكن للمشتري، في أثناء المفاوضات، أن يجادل بما يلي:
1. ليست هناك حاجة لهذا الشرط.
2. لا يكفي إعطاء إخطار واحد بسبب خطورة تبعات الفسخ.
3. ليس هناك أي مجال للتعويض ويكفي الحصول على فرق السعر.
4. يجب ألا يكون البائع قد تخلف عن الوفاء بأي من التزاماته فيما يتعلق بوقت التوريد أو صلاحية البضاعة للغرض منها، والكميات الموردة، الخ.
5. يمكن تحديد سقف لمسئولية المشتري يجب عدم تجاوزه.
ولنفرض أن هذه المحاولات قد فشلت، عندئذ يمكن للمشتري أن يستخدم حقه في إدراج شرط مناظر لذلك الشرط لضمان مصلحته. ويمكن صياغة هذا الشرط بحيث ينص على ما يلي:
"في حالة تخلف البائع عن تسليم البضاعة أو مستندات ملكيتها خلال الفترة المحددة في هذا العقد وطبقا لبنوده وشروطه، يحق للمشترى فسخ العقد دون إخطار بذلك، ويجوز للمشتري أن يمارس بعض أو كل الحقوق التالية (تكتب نفس البنود الموجودة في شرط البائع والمذكورة أعلاه)".