أولا- مفهوم التعاقد الإلكتروني
رغم استخدام تعبير "التعاقد الإلكتروني" كثيرًا في مداولات لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي، لم تضع اللجنة تعريفًا محددا له، ويظهر مع ذلك من مداولات اللجنة أن هذا التعبير يستخدم للإشارة إلي تكوين العقود عن طريق الاتصالات الإلكترونية أو "رسائل البيانات" بالمعني الوارد في المادة 2 من قانون الأونستيرال النموذجي بشأن التجارة الإلكترونية، وهذا المفهوم لتعبير "التعاقد الإلكتروني" يتوافق أيضًا مع المعني المقصود في العقود العادية.
ومن ثم، لا تعد "العقود الإلكترونية" عقودًا" مختلفة بشكل أساسي عن العقود التي تكتب علي الورق، ومع ذ لك فإن التجارة الإلكترونية لا تحاكي تمامًا أنماط التعاقد المستخدمة في تكوين العقود عن طريق الوسائل التقليدية.
ويمر عبر شبكة الإنترنت يوميًا الآلاف من العقود التي تبرمها الأطراف المتعاقدة من بيع وشراء لمختلف السلع والخدمات. ويثور سؤال: هل العقود التي تتم عبر شبكة الانترنت عقودا رضائية، تخضع لمبدأ سلطان الإرادة والتراضي بين الأطراف المتعاقدة، أم عقود إذعان لا يكون لأحد الأطراف فيها حرية الإرادة التي تمكنه من التفاوض حول شروط العقد؛ ولا يكون له إلا الاستجابة للشروط الموضوعة من الطرف الآخر، دون أن يملك مناقشتها أو التعديل فيها أو الاعتراض عليها مما يقرﺑﻬا إلى عقود الإذعان مثل عقود الغاز والكهرباء والنقل؟
وهناك رأيان حول هذا الموضوع:
الأول، ويتبناه القانون الإنجليزي، يرى أن عقود التجارة الإلكترونية هي بمثابة عقود إذعان، وإن لم يصرح بذلك صراحة علي اعتبار أن المتعاقد، لا يملك إلا أن يضغط في عدد من الخانات المفتوحة أمامه في موقع البائع، أو المشتري، على المواصفات التي يرغب فيها من السلعة وعلى الثمن المحدد سلفًا، الذي لا يملك مناقشته أو المفاوضة عليه مع المتعاقد الآخر، وكل ما يتاح له هو إما قبول العقد برمته أو رفضه كلية.
أما الرأي الثاني، فيرى أن هذه العقود رضائية وتختلف عن عقد الإذعان الذي هو من عقود الاحتكار والمنافسة الضيقة، مثل عقود توريد الكهرباء والغاز والمياه التي تمس مصلحة حقيقية، وتقدم خدمة لا يستطيع المستهلك الاستغناء عنها بسهولة، في الوقت الذي يوجد محتكر وحيد أو عدد قليل من المنتجين لهذه السلعة الذين يقومون بتحديد أسعار بيعها للمستهلك.
ومازال مبدأ الرضائية يسود العقود الإلكترونية علي اختلاف أنواعها، ويرى أنصار هذا الرأي أن الأطراف التي تدخل في العقود الالكترونية التي تتضمن شروطا معدة سلفًا، ليست مجبرة على الدخول فيها، فيجوز للطرف المتعاقد شراء السلعة من منتج أو مورد آخر لم تعجبه الشروط المعروضة، لأن هناك عددًا كبيرًا من البائعين والمشترين الذين يتعاملون في السلعة، فإذا ما أراد أحد الأشخاص شراء سيارة فهناك عدد كبير من منتجي السيارات ذات الأشكال والأحجام والقدرات المختلفة، وعليه فإن تفصيل الشروط التي يضعها العارض إنما هي تحليل للإيجاب أو الدعوة إلي التعاقد وتبسيطه إلي طلبات وأوامر صغيرة تستجيب لكل صفة من صفات المنتج بفرض تقليل الزمن واﻟﻤﺠهود وتسهيل عمليات البيع والشراء التي تتم عادة عن طريق أجهزة الكمبيوتر.
ثانيا- التحديات القانونية التي تواجه التفاوض الإلكتروني
1) التحقق من الموقع الإلكتروني
توصف عقود الإنترنت في وصفها القانوني بأنها تتم بين غائبين، أو تعاقد عن بعد، إذ لا تسنح الفــرصة باجتماع في مجلس تعاقد واحد، الغالب فيها أن الأطراف لا يرون بعضهم البعض، كما قد يكون أحدهم طرفا غير جاـد في العملية التعاقدية لذلك قد يكون ولوج الموقع الإلكتروني خطرا على أحد أطراف المعاملة، كما لو يكون مجرد موقع وهمي، الهدف منه النصب والاحتيال.
ولتفادي ذلك، لجأت التشريعات الحديثة إلى استحداث ما يسمى بجهات التوثيق والتصديق الإلكتروني certification authorities والتي تكفل عملية تعقب وكـشف هـوية المــوقع الإلكتروني إضافة إلى تسجيل وتخزين وإثبات المعاملة الإلكترونية المبرمة بين الأطراف، وإذا ما تبين أن أحد المواقع غير آمن جانبه تقوم بتحذير الزبون وإخطاره بمصداقية الموقع، وتصدر هذه الجهات شهادات إلكترونية وشهادات خدمات.
2) مطابقة المعلومات لحقيقة حاملها
لا تقتصر مهام سلطات التوثيق في المصادقة عن المعاملات الإلكترونية، وإنما تتعداها إلى التمعن في مطابقة المعلومات لحقيقة حاملها كبيانات مصداقية الموقع Website، والشخص الموقع Signataire (الطرف المتعاقد) وبيان صلاحية كل واحد منهما، يضاف إلى ذلك تسليم شهادات إلكترونية (شهادات محمية، أو شهادات مستخدم، تكون هي بطاقة هويتهما).
3) تحديد هوية الشخص المتعاقد
مثل العقود العادية، لا ينعقد العقد الالكتروني صحيحا ما لم يتم تحديد أطرافه تحديدا وافيا، خصوصا اسم، وهوية الشخص المتعاقد، وأهليته القانونية، لذلك فقد يبحر على الإنترنت أشخاص قاصرون أو فاقدوا الأهلية كلها، أو بعضها، فهي ممنوعة حكما من إجراء التصرفات القانونية ، لهذا السبب وجب تعيين وصفي لطرفي العقد الذين يكونان غائبين ماديا لمجلس العقد، أو وقت تحمل الالتزامات، فكيف يمكن نسبة العقد لأطرافه لم يسبق لهما وأن تعاملا من قبل؟ وكيف يمكن إبعاد القصر وعديمي الأهلية عن التعامل عبر الإنترنت؟
وفي المعاملات التقليدية، توجد العديد من العوامل والطرق التي يتم التحقق من خلالها من شخص الطرف الثاني كالمعرفة الشخصية والمادية للأطراف مثل الجنس والاسم. أما في التجارة والبيوع الإلكترونية فنـجد الإجابة في الوسائل التقنية الحديثة التي تحيلنا على التوقيع الإلكتروني، وسلطة التصديق، إضافة إلى ذلك عملية التشفير (الترميز) الإلكتروني التي تحمي مصدر الإيجاب والقبول على الشبكات دون تعديل خارجي لموضوع العقــد، فهي تحدد الشخص مرسل الإيجاب وتؤكد على الشخص المتلقي له، و تقيم الدليل في حال نشوب نـــزاع بين ذوي الشأن فإن هذه التقنيات نادرة الاختراق، أو التعديل وتعطي ضمانات أوسع من تلك التي على ورق خصـوصا في نسبة المحرر لصاحبه.
وينبغي للقول بصحة الإرادة ابتداء ثبوت نسبتها إلى صاحبها . فصحة الإرادة تتحقق بتمتع من صدرت عنه بالاهلية وخلو هذه الإرادة من عيوب الإرادة وهو ما يتطلب تحديد صاحبها .
وإذا كأن تحديد شخص من صدرت عنه الإرادة يسيرا في الوسائل الالكترونية التقليدية كالهاتف والفاكس فأن الامر على خلاف ذلك عندما يتعلق الامر بالتعاقد عبر شبكة الانترنت أو غيرها من شبكات المعلومات المفتوحة . إذ يمكن في هذه الشبكات التلاعب بالرسائل الالكترونية المرسلة عبرها . كأن يقوم شخص غير مخول بارسال رسالة باسم شخص اخر أو يقوم بالتلاعب برسالة ارسلها شخص معين وتحريف ما ورد فيها من معلومات . فإذا كانت هذه الرسالة تتضمن تعبيرا عن الإرادة سواء أكأن إيجابا ام قبولا فكيف يمكن التحقق من نسبتها حقيقة إلى من تنسب إليه ؟
وقد وضع القانون النموذجي (الاونسيترال) وكذلك القانون الاتحادي للمعاملات والتجارة الالكترونية الاماراتي قواعد معينة تنظم العلاقة بين منشئ الرسالة الالكترونية (التي تتضمن التعبير عن الإرادة) وبين متلقيها المرسل إليه .فالرسالة الالكترونية لا تعد صادرة عن المنشئ في الحالة التي يصدرها بنفسه فقط ، وأنما تعد هذه الرسالة صادرة عنه أيضا إذا ارسلت من شخص له صلاحية التصرف نيابة عن المنشئ فيما يتعلق بالرسالة الالكترونية وكذلك إذا كانت قد صدرت من نظام معلومات مؤتمت ومبرمج للعمل تلقائيا من قبل المنشئ أو نيابة عنه.
اما المرسل إليه فأنه من جأنبه يستطيع الاعتماد على الرسالة ويتصرف على اساس أنها صدرت فعلا من المرسل إليه في حالات معينة تتمثل بالاتي :
إذا كأن هناك اجراء متفق عليه مسبقا بين الطرفين ( المنشئ والمرسل إليه ) للتأكد من أن الرسالة صدرت من المنشئ كاستخدام رموز معينة وطبق المرسل إليه هذا الاجراء تطبيقا سليما .
إذا كأن منشئ الرسالة يستخدم طريقة معينة لاثبات أن الرسالة صادرة عنه فعلا كأن يستخدم توقيعا الكترونيا معينا ، فارسلت الرسالة موثقة بهذا التوقيع من قبل شخص تمكن بحكم علاقته بالمنشئ أو بوكيل المنشئ من الوصول إلى الطريقة التي يستخدمها المنشئ لاثبات أن الرسالة الالكترونية صادرة عنه .
ويلاحظ في هذه الحالة أن القانون النموذجي يحمل المنشئ تبعة اهماله فيعد الرسالة منسوبة إليه فلا يستطيع الطعن فيها ، ذلك أنه لم يحافظ على الوسيلة التي يعتمدها لاثبات نسبة الرسائل إليه مما مكن الغير من الاستيلاء عليها .
إلا أن هذه القاعدة التي تجيز للمرسل إليه التعويل على الرسالة كما وردت إليه ترد عليها استثناءات ثلاثة بموجبها يمكن للمرسل أن يطعن بنسبة هذه الرسالة إليه فلا يعود للمرسل إليه التمسك بها تجاهه . وتتمثل هذه الاستثناءات بالاتي:
1- إذا تدارك المنشئ الامر فأرسل للمرسل إليه اخطارا يبين له فيه أن الرسالة لم تصدر عنه . وفي هذه الحالة يحق للمرسل الطعن بالرسالة اعتبارا من الوقت الذي يتسلم فيه المرسل إليه الاخطار .
الا أنه ينبغي لتطبيق هذا الاستثناء أن يكون الاخطار قد ارسل في وقت ملائم أو معقول بحيث يكون للمرسل إليه وقت كاف للتصرف على اساسه. فإذا تأخر المرسل في ارسال الاخطار ، وابرم المرسل إليه تصرفات معينة اعتمادا على الرسالة التي اعتقد أنها صادرة من المرسل فلا يكون للمرسل في هذه الحالة أن يتمسك بعدم نسبتها إليه.
2- إذا علم المرسل إليه أو كأن يفترض فيه أن يعلم أن الرسالة لم تصدر من المنشئ إذا بذل عنأية معقولة أو استخدم أي اجراء متفق عليه مع المنشئ . كما لو أن المرسل الذي تنسب إليه الرسالة اعتاد أن يطلب كمية محدودة من البضاعة في كل مرة من المرسل إليه ، وتضمنت الرسالة في هذه الحالة كمية اكبر بكثير مما اعتاد طلبه.
3- إذا كأن المرسل إليه يستطيع وفقا للقاعدة المتقدمة أن يعد الرسالة صادرة ممن تنسب إليه فأنه يستطيع أيضا التمسك بكل ما ورد فيها فيعد أن الرسالة التي استلمها هي الرسالة التي قصد المنشئ أن يرسلها وأن يتصرف على هذا الاساس. وإذا استلم اكثر من رسالة فيحق له أن يعتبر أن كل رسالة مستقلة عن الاخرى ويتصرف على هذا الاساس كما لو استلم رسالتين كل منهما تطلب الكمية ذاتها من البضاعة فأن بامكأنه لن يتصرف على اساس أنهما رسالتين مستقلتين الا إذا كأن يعلم أو كأن عليه أن يعلم إذا بذل عنأية معقولة أو استخدم اجراء متفقا عليه مع المنشئ أن الرسالة كانت نسخة ثأنية.
وفي جميع الاحوال لا يستطيع المرسل إليه أن يتمسك بالرسالة إذا علم أو كأن عليه أن يعلم إذا بذل عنأية معقولة أن بث الرسالة قد اسفر عن وجود اخطاء معينة في الرسالة كما استلمها . فإذا لم يكن بامكأنه أن يعلم بذلك فأنه يستطيع الاحتجاج على المرسل بالرسالة بالحالة التي وردت إليه .
فإذا امكن نسبة الإرادة إلى شخص معين فيمكن حينها أن نتحقق من اهليته أو سلامة ارادته من العيوب . وهذا ما يتحقق بعد التثبت من هويته والتأكد من أنه فعلا من يدعي أنه ارسل الرسالة . وهو ما سنعالجه تفصيلا في الجزء الثأني من هذه المحاضرات والمتعلق باثبات هوية المتعاقد .
4) الأهلية في العقد الإلكتروني
أما عن الأهلية في التعاقد الإلكتروني حيث يتم التعاقد عن بعد فانه قد يصعب على أحد طرفي التعاقد التحقق من أهلية المتعاقد الآخر، وقد يترتب على هذا الانفصال المكاني بين أطراف المعاملات الإلكترونية عدم معرفة كافة المعلومات الأساسية عن بعضهما، كما أنه من الممكن أن يكون الموقع الإلكتروني الذي يتعامل معه المتعاقد هو موقع وهمي، فالعقد الإلكتروني يجب لانعقاده صحيحا أن يكون صادراً عن متعاقدين تتوافر فيهما أهلية التعاقد، وهذا ما دفع المختصين في هذا المجال إلى تقديم بعض الحلول والاقتراحات لتلافي هذا العيب ومنها اللجوء إلى سلطات الإشهار التي هي عبارة عن طرف ثالث محايد موثوق فيه من كلا الطرفين بينما يرى البعض الآخر من الفقهاء المختصين أن الحل هو اعتماد نظام قانوني يفيد التحقق من شخصية أطراف العقد الإلكتروني عن طريق أي وسيلة تؤدي إلى التحقق والتأكد من الشخصية، أي أنه يستطيع كل طرف من خلال هذه الوسيلة التأكد من شخصية الطرف الآخر ، ويلاحظ أن تقنين الاستهلاك الفرنسي نص في المادة (12/18) والتوجه الأوربي الصادر في 20 مايو 1997 قررا أنه بالنسبة لكل عرض لبيع منتج أو خدمة عن بعد ، على المورد أن يضمن عرضه بيانات تتعلق بتحديد شخصيته مثل اسم المنشأة وعنوانها والبريد الإلكتروني ، كما ألزم المستهلك بتقديم بيانات التعرف لشخصيته.
إن العقد الإلكتروني كأي عقد آخر يجب لانعقاده انعقاداً صحيحاً أن يكون صادراً عن متعاقدين تتوافر فيهما أهلية التعاقد فإذا أراد أطراف المعاملة وقوع العقد صحيحاً فإنه يتعين عليهم التدقيق في مسألة الأهلية بأي وسيلة متاحة على أن البيانات المطروحة من أحد المتعاقدين عبر شبكة الإنترنت قد لا تكون صحيحة ولا يمكن للمتعاقد في هذه الحالة التحقق من بيانات التعريف بالمتعاقد الآخر وهو ما قد يؤثر بالتأكيد على صحة التعاقد إذا تبين بالفعل عدم توافر أهلية التعاقد لكلا الطرفين أو أحدهما.
ثالثا- مفهوم التراضي في العقود الإلكترونية
لا تختلف عقود التجارة الالكترونية في جوهرها عن أي عقد آخر، فهي لا تعدو كونها ارتباط الإيجاب الصادر من احد العاقدين بقبول الأخر و توافقهما على وجه يثبت أثره في المعقود عليه . لذا فأن إبرامها يستلزم توافر الأركان اللازمة لإبرام أي عقد من رضا ومحل وسبب. وقد بينا أيضا أن ما يميز هذه العقود هو الوسيلة التي تتم بها . فإبرام هذه العقود يتم في بيئة الكترونية , وهذا ما يدفع إلى التساؤل عما إذا كأن الاختلاف في الوسيلة التي تبرم بها هذه العقود من شأنه أن يولد اختلافا في الأحكام القانونية التي تحكم أركانها .
ويقصد بالتراضي في العقود بشكل عام توافق إرادتين على إحداث اثر قانوني . والتراضي هو الركن الأول اللازم توافره في العقد . ولكي يعد ركن الرضا متوافرا لابد من أن يكون التراضي موجودا أولا وأن يكون صحيحا ثانيا.
ويتحقق وجود الرضا بشكل عام بالتعبير عن إرادة كل من الطرفين و من ثم تبادل التعبيرين وتوافقهما, ولما كأن إبرام عقود التجارة الالكترونية يتم عبر وسيط الكتروني فأن يتم تبادل التعبير عن الإرادة يكون من خلال هذا الوسيط الالكتروني
حيث يتم توجيه الإيجاب من خلاله ويتم كذلك تلقي القبول عبره.
وهنا يثار التساؤل عن الكيفية التي تستخدم فيها وسيلة الكترونية للتعبير عن الإرادة, فإذا كانت هذه الوسيلة صالحة لتبادل التعبير عن الإرادة فهل يختلف مفهوم الإيجاب والقبول الالكترونيين عن مفهوم الإيجاب والقبول التقليديين؟
ويتفق الفقه على أنه ليس في القواعد العامة ما يحول دون أن يتم التعبير عن الإرادة بالوسيلة الالكترونية. فالقواعد العامة تتيح للتعبير عن الإرادة وسائل عدة. فالتعبير عن الإرادة يمكن أن يكون باللفظ ويمكن أن يكون بالكتابة أو بالإشارة المتداولة عرفا ولو من غير الأخرس أو باتخاذ أي مسلك آخر لا تدع ظروف الحال شكا في دلالته على التراضي.
وتنص المادة (11) من قانون التجارة الالكترونية النموذجي ( الاونسيترال ) على أنه " في سياق تكوين العقود , وما لم يتفق الطرفان على خلاف ذلك , يجوز استخدام رسائل البيانات للتعبير عن العرض وقبول العرض . وعند استخدام رسالة بيانات في تكوين العقد , لا يفقد ذلك العقد صحته أو قابليته للتنفيذ لمجرد استخدام رسالة بيانات لذلك الغرض."
ويتفق الفقه على أن الرضا يعد متحققا في هذه الحالة. إلا أنهم اختلفوا في تبرير رأيهم القاضي بإمكانية صدور التعبير عن الإرادة من الوسيلة الالكترونية والاعتداد به للقول بوجود الرضا.
فالرأي الأول: يذهب إلى منح الشخصية القانونية وما ينتج عن ذلك من أهلية قانونية وصلاحية للتعبير عن الإرادة إلى الوسيلة الالكترونية ( برنامج الحاسب) الذي تم بواسطته إبرام العقد. وقد ساق أنصار هذا الاتجاه لتأييد رأيهم عددا من الحجج والأسانيد . يتمثل أهمها بالاتي:
1- من الناحية الاجتماعية أي كيان يكون مستقلا في تفكيره وله وعي خاص به بحيث يستطيع أن يتخذ القرارات مؤهل من الناحية الافتراضية لكي يعامل كشخص قانوني متمتع بالشخصية القانونية المستقلة , وأجهزة الكومبيوتر والبرامج المتطورة صار لها نوع من الاستقلال في التصرف عن الشخص الذي يقوم بتشغيلها . ويضربون مثالا على ذلك جهاز الكومبيوتر الذي صنعته شركة IBM واسمه Deep blue الذي لعب الشطرنج مع بطل العالم غاري كاسباروف وهزمه في 11 /5 / 1997 واستمرت المباراة اكثر من ساعة بقليل.
2- من الناحية القانونية المشرع يعترف بالشخصية القانونية لكيانات معينة ويعترف لها بالأهلية القانونية على الرغم من أنها لا تعد شخصا بمفهوم الشخص الطبيعي ولا يمكن القول بأن لها إرادة بالشكل الذي يمكن معه منحها الشخصية القانونية ، مثل الأشخاص المعنوية أو الاعتبارية على اختلاف صورها كالشركة مثلا فالشركة تتكون من مجموعة من الأشخاص ويعترف لها المشرع بالشخصية القانونية المستقلة عن شخصية الشركاء المكونين لها بحيث أنها تبقى محتفظة بالشخصية القانونية حتى لو تغير الشركاء فيها أو تغير الأشخاص القائمون على إرادتها . ولا تزول شخصيتها القانونية الا إذا تمت تصفيتها بشكل نهائي . لذا فلا يوجد ما يمنع من الناحية القانونية من أن تمنح برامج الحاسب الالكتروني الشخصية القانونية الاعتبارية حاله في ذلك حال الأشخاص المعنوية أو الاعتبارية الأخرى.
3- أن بعض الأنظمة القانونية تمنح أحيانا عناصر من الشخصية القانونية إلى أشياء مادية ليس لها إرادة أو وعي وليس لها شخصية قانونية مستقلة مثل السفن . فإذا كأن لأحد الأشخاص مصلحة معينة في تجارة سفينة معينة فأنه يستطيع أن يقاضي السفينة مباشرة كمدعى عليها والحكم الذي يصدر ينفذ مباشرة على السفينة . فيكون منح برامج الكومبيوتر الشخصية القانونية من باب أولى لأن لديه نوعا من الإرادة والاستقلال في التفكير بخلاف السفينة التي ليس لها إرادة من أي نوع .
إلا أن هذا الرأي لم يسلم من النقد. فلا يمكن التسليم بالاستقلال التام لبرامج الكومبيوتر عن أي شخص آخر. لأن هذا البرنامج يتم إعداده من قبل شخص معين كما تتم صيانته من قبل شخص معين. والواقع العملي يفيد ارتباط البرنامج بالشخص الذي يقوم باستخدامه. فالشركات التي توفر هذه البرامج في التجارة الالكترونية تقوم ببعض إجراءات التسجيل والتعريف. فأي شخص يرغب باستخدام هذه البرامج في التجارة الالكترونية عليه أن يقوم بتسجيل هذه البرامج، كما أن عليه أن يعرف نفسه باعتباره طرف التعاقد الذي يقف وراء البرنامج.
والاهم من هذا كله أن العقد إلي يتم إبرامه عن طريق هذه البرامج ينسب إلى الشخص الذي استخدم البرنامج وكأن الرضا صادر عنه هو ، ولا ينسب إلى الجهاز الذي صدر عنه النعبير. بما يؤكد وجود الارتباط بين البرنامج وشخص مستخدمه .
أما الرأي الثأني، فيذهب إلى أن هذه البرامج لا تعدو كونها وسيلة اتصال ، بحيث أن كل ما يصدر عنه يعد صادرا مباشرة عن الشخص الذي يسيطر عليه ويقف خلفه . فالحاسب الالكتروني والبرامج الملحقة به لا تختلف عن أي آلة اخرى يمكن أن تستخدم في التعاقد كالهاتف والفاكس.
وبناء على ذلك لا يمكن القول بأن التعبير عن الإرادة صدر عن جهاز الحاسب الالكتروني وأنه يقوم بإبرام العقد تلقائيا. بل إن الشخص الذي يسيطر على الجهاز هو الذي قام بإبرام العقد من خلال هذه الوسيلة من وسائل الاتصال ، التي يقتصر دورها على نقل الإرادة من متعاقد إلى اخر .
ويترتب على ذلك أن الشخص الذي يستخدم برامج الحاسب الالكتروني في التجارة الالكترونية لإبرام العقود قد يواجه التزامات غير متوقعة في حال حدوث أي خلل في نظام الحاسب الالكتروني. وهذا قد يحقق بعض المزايا لأنه سيحمل ذلك الشخص على بذل المزيد من الحرص من اجل التأكد من أن الوكيل الالكتروني يعمل بصورة صحيحة .
إلا أن هذا الرأي بدوره لم يسلم من النقد ، لأنه يتسم بالمغالاة غير المبررة . فليس من المنطقي و لا من العدل أن يتحمل المتعاقد تبعة التزامات غير عادية وغير متوقعة لمجرد أنها نشأت عن الحاسب الالي الذي يستخدمه ، فمثلا قد يكون الطرف الثأني عالما أو ينبغي عليه أن يعلم بأن هذا الاتصال تم بواسطة برنامج من برامج الحاسب الاكتروني وهو لا يمثل نية الطرف الأول في العقد . ففي مثل هذا الفرض من العدل أن لا يتحمل الطرف الأول في العقد الذي يستخدم البرنامج تبعة الالتزامات غير المتوقعة في حين أنه بموجب هذا الرأي القانوني يجب على من يستخدم هذا البرنامج أن يتحمل جميع النتائج التي تترتب على الفيروسات التي تصيب الالكترونيات أو حتى من خطأ في البرمجة.
ويذهب رأي ثالث إلى التوفيق بين الرأيين السابقين . فيقر بعدم وجود شخصية قانونية لبرامج الحاسب ، ولكنه لا ينفي أنها قادرة على التعبير عن الإرادة بشكل مستقل عن المتعاقد الذي استخدمها وليس مجرد اداة اتصال . ويذهب بناء على ذلك إلى أن هذا البرنامج هو عبارة عن وكيل عن المتعاقد يقوم بإبرام العقد باسم ولحساب المتعاقد الذي يستخدمه. ويستند في رأيه إلى حجتين:
الأولى: أن الوكيل الالكتروني يقوم بإبرام تصرف قانوني باسم ولحساب المتعاقد بدون تدخل من هذا الاخير وهذا هو عين ما يقوم به الوكيل . فالوكالة عقد يقيم الموكل بمقتضاه شخصا اخر مقام نفسه في تصرف جائز معلوم.
والثانية : أن المشرع لا يشترط في الوكيل أهلية التصرف. إذ يكفي في الوكيل أن يكون مميزا ، تأسيسا على أنه لا يتصرف لمصلحته وأن آثار هذا التصرف تضاف إلى ذمة الموكل لذا فأن اهلية التصرف تستلزم في الموكل فقط دون الوكيل . ويكفي أن يكون الوكيل قادرا على أن يفهم مإذا يفعل . بناء على ذلك فأن من ليس لديه الاهلية يمكن أن يكون وكيلا طالما لديه القدرة على الفهم والاستيعاب ، بعبارة اخرى يمكن أن يكون الوكيل بموجب احكام الوكالة عبارة عن برنامج الكتروني.
إلا أن هذا الرأي بدوره غير دقيق. واهم ما يؤخذ عليه ما يلي:
1. صحيح أن الوكالة هي عقد يقيم الموكل بمقتضاه شخصا اخر مقام نفسه في تصرف جائز معلوم . وأن هذا المفهوم من حيث الظاهر يمكن أن ينطبق على برنامج الحاسب الالكتروني ، الا أن الوكالة كأي عقد اخر تفترض وجود طرفين . وهذأن الطرفان لا بد من أن يعبرا عن ارادتهما بإبرام عقد الوكالة . إذ أن الرضا يعد ركنا في عقد الوكالة ولا وجود لها بدونه . فهل ابرم المتعاقد مع برنامج الحاسب الالكتروني عقد وكالة؟
2. أن هذا الرأي يخلط بين الاهلية والشخصية القانونية ، وهذا غير جائز ، إذ أنه يستند إلى أن احكام عقد الوكالة لا تستلزم في الوكيل كمال الاهلية . وهذا الاستناد في غير محله . لأن السماح بموجب احكام القانون لشخص ناقص الاهلية بأن يكون وكيلا لا يعني السماح لمن لم تكن له شخصية قانونية بأن يكون وكيلا ، لأن الشخصية شئ والاهلية شئ اخر.
رابعا- الإيجاب الإلكتروني
وضعت اتفاقية فيينا لعام 1980 بشأن النقل الدولي للبضائع في المادة (14/1) معيارا لتحديد الإيجاب وفقاً لمعناه التقليدي فنصت على أن الإيجاب (يكون محددا بشكل كافٍ إذا تعينت فيه البضائع محل البيع وتحددت كميتها وثمنها صراحة أو ضمنا ، أو إذا كانت ممكنة التحديد حسب البيانات التي تضمنتها صيغة الإيجاب).
أما الإيجاب في العقد الإلكتروني فقد عرفه التوجيه الأوروبي الصادر في 20/5/1997م بأنه (كل اتصال عن بعد يتضمن كافة العناصر اللازمة لتمكين المرسل إليه من أن يقبل التعاقد مباشرة ويستبعد من هذا النطاق مجرد الإعلان).
ولفظ إلكتروني إذا ما أضيف إلى الإيجاب فلا يؤثر في معناه المذكور شيء وفقا للنظرية العامة للالتزامات ، فالمسألة مجرد وصف لا أكثر بسبب اختلاف وسيلة التعبير عن الإرادة، فالتعبير في العقد الإلكتروني يتجسد في وسائل الاتصال الحديثة عن طريق الحاسب الآلي، يظهر التعبير عن الإرادة على شاشة هذا الحاسب وقد يتم التعبير عن الإرادة إلكترونيا عن طريق البريد الإلكتروني أو عن طريق موقع انترنت أو عن طريق المحادثة. وسنبحث فيما يلي كل حالة على حدة.
1) الإيجاب عبر البريد الإلكتروني
يهدف الإيجاب الذي يتم عبر البريد الإلكتروني أن يكون العرض لأشخاص محددين وذلك في حالة إذا ما رغب التاجر في أن يخصص الإيجاب لأشخاص الذي يرى إنهم قد يهتمون بمنتجه دون غيرهم من أفراد الجمهور، ويلاحظ أن الإيجاب إما أن يكون موجه لشخص واحد فقط أو موجه لعدة أشخاص، وأن الإيجاب الموجه لشخص واحد هو إيجاب غير ملزم إلا إذا كان الإيجاب خلال مدة معينة يلتزم من خلاله الموجب بالبقاء على إيجابه طوال تلك المدة، وفي حالة الإيجاب غير الملزم يمكن رفضه عبر البريد الإلكتروني إذا قام الموجه له بإغلاق جهاز الحاسب الآلي أو انتقل إلى موقع آخر غير موقع الموجب.
أما إذا كان الإيجاب موجه لعدة أشخاص فإنه يكون عند الشك مجرد دعوة إلى التفاوض أو التعاقد ولا يكون إيجاباً استنادا إلى أن النشر أو الإعلان أو بيان الأسعار الجاري التعامل بها أو بطلبات موجه للجمهور فلا يعتبر عند الشك إيجاباً، ولكن يكون دعوة إلى التعاقد.
2) التعاقد من خلال موقع على شبكة الانترنت
تتضمن الانترنت عددا كبيرا من المواقع في مختلف التخصصات, منها ما هو علمي ومنها ما هو فني ومنها ما هو تجاري مخصص لعرض البضائع أو الخدمات من قبل التجار. ومثل هذه المواقع يشبهها البعض بالمحلات التجارية. إذ أنها تتضمن عرضا مرئيا للسلع أو النماذج أو معلومات مكتوبة عن السلعة أو الخدمة التي يقوم التاجر صاحب الموقع بتقديمها. ويجري من خلال هذا الموقع ذاته إبرام العقود إذ يمكن لأي شخص أن يعبر عن إرادته بشراء السلعة أو الخدمة بالضغط على زر معين في جهاز الحاسب الالكتروني الموجود لديه. ويفترض في أي موقع على شبمة الانترنت أن يكون ثابتا ومستمرا بالشكل الذي يتيح الدخول إليه في أي وقت وأيا كان المكان الذي يقيم فيه زائر الموقع. فالمواقع على شبكة الانترنت تجارية كانت أو غير تجارية لا تتقيد بحدود الزمان والمكان.
وهذا النوع من الإيجاب لا يختلف كثيرا عن الإيجاب الصادر من الصحف أو عبر التلفاز وذلك لأنه إيجاباً مستمراً على مدار الساعة، وأن هذا الإيجاب يكون في الأغلب موجه إلى الجمهور وليس إلى فرد معين، وذلك إن الإيجاب الصادر عبر صفحات الويب لا يكون محدداً بزمن وإن كان محددا بنفاذ الكمية أو مدة معقولة كما في الإيجاب التقليدي ليس إلا وفي مثل هذه الحالة يكون الإيجاب كاملاً إذا استكمل شروطه العامة.
3) الإيجاب عبر المحادثة والمشاهدة المباشرة
تتيح شبكة الانترنت للمشتركين فيها إمكانية التحدث مباشرة , ويكون ذلك بحضور الطرفين في الوقت ذاته والدخول إلى شبكة الانترنت ويتم التحدث بينهما إما بأن يكتب احد الطرفين ما يريد قوله على شاشة الحاسب الالكتروني الخاص به لينتقل ما كتبه إلى شاشة الطرف الآخر الذي يرد عليه بنفس الطريقة, أو أن تتم الاستعانة ببعض الأجهزة الملحقة بالحاسب الالكتروني كمكبر الصوت ليتم تبادل الحديث بينهما مشافهة أو أكثر من ذلك يمكن لأحدهما رؤية الآخر عبر آلات تصوير تلحق بجهاز الحاسب الآلي. وهذه الوسيلة كالوسيلتين السابقتين يمكن أن تكون وسيلة للتعبير عن الإرادة ونقلها إلى الطرف الآخر من اجل إبرام عقد من العقود الكترونيا .
هنا يستطيع المتعامل على شبكة الإنترنت أن يرى المتصل معه على شاشة الحاسب الآلي، وأن يتحدث معه وذلك عن طريق كاميرا بجهاز الكمبيوتر لدى كل من الطرفين، ويتصور في هذه الحالة أن يصدر من أحد الطرفين إيجابا يصادفه قبولاً من الطرف الآخر وهنا ينعقد العقد بناء على تلاقي الإيجاب والقبول وتكون أمام تعاقد بين حاضرين حكما.
ويمكن الجمع بين طريقتين أو بين الطرق الثلاث السابقة معا من اجل إبرام عقد واحد, كأن يدخل شخص إلى احد المواقع التجارية على شبكة الانترنت التي يبين فيها التاجر صاحب الموقع بأن من يرغب في الحصول على السلعة أو الخدمة المعروضة في الموقع عليه أن يتصل بالتاجر عن طريق البريد الالكتروني المبين في الموقع ذاته.
والواقع أن صدور الإيجاب الإلكتروني ينبغي أن تسبقه مراحل تفاوضية قبل إتمام التعاقد، وبما أن الإيجاب الإلكتروني يكون إيجابا عن بعد فان العقد الذي ينتهي إليه يكون عقدا مبرما عن بعد إضافة إلى انه غالبا ما يكون موجها من تاجر مهني إلى طائفة المستهلكين لذلك فهو يخضع للقواعد الخاصة بحماية المستهلك التي تفرض على التاجر أو المتعاقد المهني العديد من الالتزامات والواجبات تجاه المستهلك ويأتي في مقدمتها تحديد هوية البائع وعنوانه وتحديد الشيء المبيع أو الخدمة المقدمة وأوصافها والسعر المقابل لها وطريقة الدفع أو السداد وخيار المستهلك في الرجوع إلى التعاقد في خلال المدة المحددة قانوناً، وإعادة إخطار المستهلك بالمعلومات السابقة في خلال مدة لا تتجاوز إعادة تسليم ، ومدة الضمان وخدمة ما بعد البيع.
ويتميز الإيجاب الإلكتروني الذي يتم عبر الانترنت بوجود وسيط بعرض الإيجاب ونشره نيابة عن الموجب ولهذا السبب فان الإيجاب لا يكون فاعلا لمجرد صدوره وإنما بعرضه على الموقع إذ بهذا العرض يتحقق الوجود القانوني المؤثر للإيجاب ويكون صالحاً لترتيب آثاره.
كما أن الإيجاب الإلكتروني يختفي بمجرد سحبه من موقع عرضه إذ في هذه الحالة ينعدم أثره القانوني ولا يصبح له وجود يعتد به .لأنه لن يكون متاحا للجمهور في هذه الحالة.(1)
ويلاحظ أنه غالباً ما يتم الإعلان عن السلع والخدمات عن طريق الإنترنت ويمكن تعريف الإعلان بأنه (كل شكل من أشكال الاتصال في إطار نشاط تجاري أو صناعي أو فني بهدف الدعاية لتوريد أشياء أو خدمات).
وقد اختلفت الآراء حول الحد الفاصل بين الإيجاب والإعلان. ويرى رأي أن الإعلان لا يعتبر إيجاباً وإنما دعوة إلى التعاقد وذلك بسبب عدم تعيين الشخص المقصود بالإيجاب فضلا عما يحمله هذا النوع من ضغط معنوي على المستهلك وتحريض له على شراء سلع غير ضرورية.
أما الرأي الأخر فيعتبر الإعلان الموجه للجمهور عبر الإنترنت إيجاباً، ونحن نميل لأصحاب الرأي الثاني طالما أنه قد تضمن العناصر الأساسية للعقد المراد إبرامه كأن يتضمن تحديداً للسلعة أو الخدمة تحديداً نافيا للجهالة ويتم أيضا تحديد الثمن أما إذا لم يتضمن الإعلان ذلك فإنه لا يـعد وأن يكون مجـرد دعــوة للتعاقد.
خامسا- القبول
1) مفهوم القبول
القبول هو تعبير عن إرادة من وجه إليه الإيجاب يفيد موافقته على الإيجاب ويؤدي القبول إلى إتمام العقد متى وصل إلى علم الموجب وكان الإيجاب لا يزال قائما أي لم يكن قد سقط لسبب من الأسباب كموت الموجب أو الموجب له أو بفقد أحدهما الأهلية.
والقبول الإلكتروني يتوافق مضمونه مع المعنى السابق كل ما في الأمر أنه يتم من خلال وسيط إلكتروني. ويصدر في الغالب الراجح من المستهلك ويتم عن بعد. وإذا كان القبول العادي قد يكون صريحاً أو ضمنياً، فإن القبول الإلكتروني لا يكون إلا صريحاً سواء باستعمال لفظ صريح ومباشر يدل على المعنى المقصود ويتم إما عن طريق اتصال تليفوني عبر الإنترنت أو عن طريق المحادثة الكتابية MIRC أو عن طريق البريد الإلكتروني وقت أن يعد المستهلك قبوله في شكل رسالة بريدية من خلال أحد برامج البريد الإلكتروني ويتم كتابة مضمون القبول في سطر الموضوع، ثم مجرد الضغط على زر الإرسال لتوجيه الرسالة إلى القائمة البريدية الإلكترونية الخاصة بالمحترف المهني.
2) القبول الصريح والعرض المضاد
من المهم تمييز القبول عن العرض المضاد. وحينما ترفض الشروط صراحة، كقول من وجه الإيجاب "نحن لا نقبل الدفع في غضون سبعة أيام من تاريخ استلام الفاتورة" لا تكون ثمة صعوبة تذكر في معرفة أن العقد لم يتم. لكن الأمر يصبح أكثر تعقيدا، عندما يكون هناك عرض مضاد؛ كقول من وجه إليه الإيجاب "تدفع الفواتير في غضون 14 يوما من استلامها." ومع ذلك، ففي كلتا الحالتين، لن يتكون عقد لأن الإيجاب لم يُقبل. ويسري هذا المبدأ على القبول الإلكتروني مثلما يسري على القبول بالكتابة العادية.
لكن ثمة صعوبة تنشأ في القبول الإلكتروني عندما لا يستطيع المتلقي قراءة الرسالة بالطريقة نفسها التي أرسلت بها. ففي قضية Hnkel v. Pape، عرض البائع في برقية تلغرافية بيع 50 بندقية ، وأرسل المشتري رسالة يقول فيها send three rifles، لكن الرسالة وصلت مشوشة كما يلي send the rifles. وقضت المحكمة بأن المشتري ملزم فقط بشراء ثلاثة بنادق، وبأن تبعة تشويش الرسائل تقع على عاتق البائع. ويمكن أن يطبق المبدأ نفسه في حالة القبول الإلكتروني.
3) تبليغ القبول
باستثناء قاعدة الإرسال بالبريد postal rule المطبقة في القانون الإنجليزي، يؤتي التعبير عن الإرادة أثره من لحظة علم من وجه إليه. وفي قضسة Entores Ltd. V. Miles Far East Corp. حاول الموجه إليه الإيجاب تبليغ قبوله عبر خط التليفون، لكن الخط كان سيئا جدا، ولم يُسمع قبوله، وقضت المحكمة بأنه لم ينشأ عقد نافذ. والقاعدة نفسها يمكن أن تسري على تبليغ القبول بطريق الرسائل الإلكترونية التي تصل مشوهة، أو الوثائق التي يتعذر فتحها بدون برمجيات معينة، أو في حالة العطل من مقدم خدمة الانترنت.
وفي قضية Anson v. Trump قضت المحكمة بأن رسائل الفاكس تعتبر قد وصلت إلى علم من وجهت إليه من لحظة استلامها، وليس من لحظة إرسالها، ولو لم تقرأ، أو حتى تطبع إذا كان جهاز الفاكس يمكنه حفظ رسائل في ذاكرته.
وبالقدر نفسه من الأهمية، تثار مسألة متى يعتبر القبول قد تم تبليغه؟ وتنشأ أهمية هذه المسألة من قاعدة أن الإيجاب لا يمكن إلغائه إلا قبل قبوله. ومن ثم، من المهم جدا معرفة متى تم تبليغ القبول.
ولنفرض أن "عمرو" اقترح يوم 5 مارس في رسالة بالبريد الإلكتروني على "زيد" حل نزاع نشأ بينهما، بطريق التحكيم العادي arbitration. وفي يوم 6 مارس، أرسل زيد رسالة بالبريد الإلكتروني إلى عمرو يقبل فيها حل النزاع بطريق التحكيم العادي، لكن عمرو لم يتسلم رسالة زيد المؤرخة 6 مارس إلا في يوم 8 مارس رغم أن الرسالة وصلت في اليوم نفسه إلى مقدم خدمة الانترنت لكنها لم توضع في صندوق بريد عمرو إلا يوم 8 مارس. وفي يوم 7 مارس، سحب عمرو عرض حل النزاع بطريق التحكيم العادي، ورفع دعوى للفصل في النزاع بطريق التحكيم شبه القضائي adjudication. وخسر زيد القضية أمام التحكيم شبه القضائي، فقرر اللجوء إلى التحكيم العادي. لكن عمرو أنكر وجود اتفاق تحكيم بينهما على أساس أنه سحب العرض قبل استلام القبول.
والسؤال الآن: متى تم استلام القبول: هل لحظة إرساله (يوم 5 مارس)، أم لحظة تسليمه إلى مقدم خدمة الانترنت (يوم 6 مارس)، أم لحظة دخوله صندوق بريد زيد (يوم 8 مارس)؟
هناك رأيان في هذا الخصوص؛ الأول، يرى أن البريد الإلكتروني ينبغي معاملته بالطريقة نفسها التي تعامل بها رسائل الفاكس، لأن البريد الإلكتروني شكل من أشكال وسائل التبليغ اللحظي. ومن ثم، فإن الإيجاب يعتبر قد ألغي قبل قبوله، ويترتب على ذلك انعدام اتفاق تحكيم. أما الرأي الثاني، فيرى أن رسالة البريد الإلكتروني تعتبر قد تم تبليغها من لحظة إمكانية الاطلاع عليها. ويعني ذلك، من لحظة نقلها إلى مقدم خدمة الانترنت.
4) القبول عبر وسيط إلكتروني
في السنوات الأخيرة، وقعت مشكلات عدة لشركة "كوداك" فيما يتعلق بمبيعاتها عبر شبكة الانترنت نتيجة للردود الآلية على الطلبيات التي وجهت على موقع الشركة، والتي فهم منها قبول الطلبيات. وكانت المعلومات الموجودة على الموقع غير صحيحة، وأعطيت ردود آلية بالقبول على عرض ببيع بضاعة بسعر أقل كثيرا من السعر المقصود.
ويتوقف الرأي في هذه الحالة على ما إذا كان البريد الإلكتروني يعتبر وسيلة للتبليغ اللحظي، شأن الفاكس، أم لا. وفي حالة الإجابة بالإيجاب، يعامل كما في حالة نفاد الورق من جهاز الفاكس وعدم تخزين الرسائل. وفي هذه الحالة، لا يكون القبول قد تم تبليغه. أما إذا طبقت القواعد التي تنطبق على البريد العادي، مثلا وفق القانون الإنجليزي، فسيعتبر إرسال الرسالة غلى العنوان الصحيح كافيا لتبليغ القبول.
5) السكوت
لا يدل السكوت واتخاذ موقف سلبي على إرادة معينة يعتبر قبولا إذا لابسته ظروف معينة تدل على أن الموجب لم يكن ينتظر ردا على إيجابه. والقاعدة العامة هي أنه لا ينسب لساكت قول ولكن السكوت في معرض الحاجة إلى البيان يعتبر قبولا. ويعتبر السكوت قبولا بوجه خاص إذا كان هناك تعامل سابق بين المتعاقدين واقتصر الإيجاب بهذا التعامل ، أو إذا كان الإيجاب محض منفعة الموجب له وكذلك يعتبر سكوت المشتري بعد تسلمه لبضاعة التي اشتراها وقائمة الثمن قبولا لما ورد في هذه القائمة من شروط.
ولذلك يظهر لنا سؤال هل يصح السكوت الملابس للتعبير عن القبول الإلكتروني؟ ويرى بعض الفقهاء أن سكوت أحد المتعاقدين في التعامل السابق بينهما عبر الإنترنت يمكن أن نستنتج منه القبول شأنه في ذلك شأن القبول التقليدي. ويرى جانب آخر من الفقه أن السكوت لا يصلح للتعبير عن القبول الإلكتروني ولذلك فإن من يتسلم رسالة إلكترونية عبر الإنترنت تتضمن إيجاباً وينص فيها على أنه إذا لم يرد على هذا العرض خلال مدة معينة اعتبر ذلك قبولاً.
ومن الصعوبة بمكان اعتبار السكوت الملابس تعبيراً عن القبول في التعاقد عبر الإنترنت إذ أن سهولة إرسال الإيجاب عبر الإنترنت سواء أكان ذلك بواسطة صفحات الويب أو بواسطة البريد الإلكتروني قد يؤدي إلى فرض التعاقد على الشخص الذي اعتاد التعامل مع متجر افتراضي عبر الشبكة وذلك بمجرد إرسال التاجر على سبيل المثال لرسالة إلكترونية وعدم الرد عليها خلال مدة معينة بمثابة القبول لما جاء فيها من إيجاب فظروف التعامل السابق لا يكفي لاعتباره من قبيل السكوت الملابس في التعاقد عبر الإنترنت.
لكن متى استكمل الإيجاب شروطه ووافقه قبول مكتمل انعقد العقد ومعنى التوافق أن يقترن الإيجاب بقبول مطابق له فلابد أن يصدر من أحد أطراف العقد إيجاب ويصدر قبول من الطرف الآخر حتى يتحقق التوافق بين الإرادتين المؤدي إلى انعقاد العقد.
واقتران الإيجاب والقبول له أهمية بالغة في تحديد زمان ومكان انعقاد العقد.
سادسا- مجلس التعاقد الإلكتروني
ينقسم مجلس العقد إلى نوعين حقيقي وحكمي فبالنسبة للنوع الأول يقصد به (المجلس الذي يجمع المتعاقدين في مكان واحد يسمع كل منهما الآخر بحيث يبدأ بتقديم الإيجاب وينتهي إما بقبول الإيجاب أو برفضه)
أما بالنسبة لمجلس العقد الحكمي فهو المجلس الذي يكون فيه أحد المتعاقدين غير حاضراً.
ويتم تحديد الفترة الزمنية لمجلس العقد الإلكتروني على حسب الطريقة التي يتم بها التعاقد:
1) التعاقد عن طريق البريد الإلكتروني
أ- حالة وجود فاصل زمني بين الإيجاب والقبول وفي هذا الحالة لاشك بأن التعاقد يكون بين غائبين زماناً ومكاناً.
ب- حالة الإيجاب والقبول في نفس الوقت، وهذه الحالة تقترب من الهاتف وذلك أن الإيجاب والقبول يكونان في نفس الزمن فلابد من تطبيق التعاقد بين حاضرين زماناً.
2) التعاقد عبر شبكة المواقع:
في حالة دخول الشخص إلى موقع ما على الشبكة فإنه يمكن له أن يضع إجابة وينتظر فترة من الزمن لتلقي الإجابة وقد يضع إجابة تجاه هذا الموقع ويقوم بتلقي القبول فوراً ففي الحالة الأولى نكون أمام تعاقد بين غائبين وفي الحالة الثانية نكون أمام تعاقد بين حاضرين زماناً.
اختلف الفقه حول طبيعة التعاقد الإلكتروني هل هو عقد بين حاضرين أم عقد بين غائبين:
الرأي الأول:
يرى جانب من الفقه أن :التعاقد عبر الإنترنت يعد تعاقداً بين حاضرين حيث ينطبق مفهوم مجلس العقد على كلا العاقدين، إلا إنهما قد انصرفا إلى موضوع التعاقد دون أن يشغلهما عنه شاغل آخر، وكان بينهما اتصال مباشر عبر الإنترنت بحيث يسمع، أو يرى أحدهما الآخر مباشرة حيث لا يكون هناك فاصل زمني بين صدور التعبير عن الإرادة إيجاباً أو قبولاً، ووصوله إلى علم الموجه إليه.
الرأي الثاني:
يرى جانب ثانٍ من الفقه أن: التعاقد عبر الإنترنت يعد تعاقداً بين غائبين؛ لأن التعاقد عن طريق هذه الشبكة قد يكون بالكتابة بين المتعاقدين.
الرأي الثالث:
يرى جانب ثالث من الفقه: أن التعاقد عبر الإنترنت يعتبر تعاقداً بين حاضرين من حيث الزمان، وتعاقداً بين غائبين من حيث المكان، فهو يعتبر تعاقداً بين حاضرين لانعدام الفاصل الزمني بين صدور القبول، وعلم الموجب به؛ ويعتبر تعاقداً بين غائبين من حيث المكان شأنه في ذلك شأن التعاقد بالمراسلة.
الرأي الرابع:
1ـ إذا استخدم الإنترنت بطريقة تتيح نقل الصوت فقط ، فإننا نرى أن التعاقد من خلاله في هذه الحالة يعد تعاقداً بين حاضرين من حيث الزمان، وبين غائبين من حيث المكان، شأنه في ذلك شأن التعاقد بالهاتف.
2ـ أما إذا استخدم كوسيلة للكتابة والمراسلة كالبريد الإلكتروني؛ فإنه إذا كان تبادل الرسائل يتم بصورة فورية، بحيث لا يكون هناك فاصل زمني بين الإيجاب والقبول أو كان فاصل لا يكاد يذكر نظراً لما يخوله البريد الإلكتروني من النقل الفوري للرسائل المتبادلة فإنه أيضاً يعتبر تعاقداً بين حاضرين من حيث الزمان، وغائبين من حيث المكان.